كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا هو الذي ذكره منكروا حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في ادراك الإنسان.
ومن المسلم ما اورده غير انه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة وهو غير المدعى وهو ان كل منام ليس ذا حقيقة فان هناك منامات صالحة ورؤيا صادقة تكشف عن حقائق ولا سبيل إلى انكارها ونفى الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجية والامور المستكشفة كما تقدم.
فقد ظهر مما بينا ان جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى ان هذه الادراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام وهى المسماة بالرؤى لها اصول واسباب تستدعى وجودها للنفس وظهورها للخيال وهى على اختلافها تحكى وتمثل باصولها واسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل وتعبير غير ان تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم وتاويل بعضها السبب الخلقى وبعضها اسباب متفرقة اتفاقية كمن ياخذه النوم وهو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.
وانما البحث في نوع واحد من هذه المنامات وهى الرؤى التي لا تستند إلى اسباب خارجية طبيعية أو مزاجية أو اتفاقية ولا إلى اسباب داخلية خلقية أو غير ذلك ولها ارتباط بالحوادث الخارجية والحقائق الكونية 3- المنامات الحقة: المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية وخاصة المستقبلة منها لما كان احد طرفي الارتباط امرا معدوما بعد كمن يرى ان حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما راى ولا معنى للارتباط الوجودى بين موجود ومعدوم أو امرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن راى ان في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا ومن الفضة كذا في وعاء صفته كذا وكذا ثم مضى إليه وحفر كما دل عليه فوجده كما راى ولا معنى للارتباط الادراكى بين النفس وبين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.
ولذا قيل ان الارتباط انما استقر بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة ومن طريق سببها بنفسها.
توضيح ذلك ان العوالم ثلاثة عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجرى على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل.
وثانيها عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجودا وفيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعية واليها تعود وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.
وثالثها عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجودا وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة وله نسبة السببية لما في عالم المثال.
والنفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا نام الإنسان وتعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والامكان.
فان كانت النفس كاملة متمكنة من ادراك المجردات العقلية ادركتها واستحضرت اسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية والا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور والاشكال الجزئية الكونية كما نحكى نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة ونحكي مفهوم العظمة بالجبل ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فيها من الاجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب والشجاع بالاسد إلى غير ذلك.
وان لم تكن متمكنة من ادراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها واسبابها من غير ان تتصرف فيها بشئ من التغيير ويتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلفة بالصدق والصفاء وهذه هي المنامات الصريحة.
وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الامثلة المانوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء والتلبس والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال اذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى وانتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت وهكذا ومن امثلة هذا النوع من المنامات ما نقل ان رجلا راى في المنام ان بيده خاتما يختم به افواه الناس وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال انك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس باذانك.
وقد تبين مما قدمناه ان المنامات الحقة تنقسم انقساما اوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مؤنة ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكايبا لامثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولى للنفس كرد التاج إلى الفخار ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.
ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين احدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الامثلة وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير ان تقف على حد كأن تنتقل مثلا من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر ان يرده إلى الأصل المشهود وهذا النوع من المنامات هي المسماة باضغاث الاحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.
وقد بان بذلك ان هذه المنامات ثلاثة اقسام كلية وهى المنامات الصريحة ولا تعبير لها لعدم الحاجة إليه واضغاث الاحلام ولا تعبير فيها لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهى التي تقبل التعبير.
هذا اجمال ما اورده علماء النفس من قد مائنا في أمر الرؤيا واستقصاء البحث فيها ازيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشان.
4- وفى القرآن ما يؤيد ذلك قال تعالى: {وهو الذي يتو فاكم بالليل} الأنعام: 60 وقال: {الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى} الزمر: 42 وظاهره ان النفوس متوفاة ومأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهى الموت.
وقد اشير في كلامه إلى كل واحد من الاقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم عليه السلام ورؤيا ام موسى وبعض رؤى النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- ومن القسم الثاني ما في قوله تعالى: {قالوا اضغاث احلام} الآية يوسف: 44 ومن القسم الثالث رؤيا يوسف ومناما صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.
{وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسئلهم عليه من اجر ان هو الا ذكر للعالمين وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون أفأمنوا ان تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذه سبيلى ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعنى وسبحان الله وما انا من المشركين وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من اهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الاخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.
بيان الآيات خاتمة السورة يذكر فيها ان الإيمان الكامل وهو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله الا اقل قليل من الناس واما الاكثرون فليسوا بمؤمنين ولو حرصت بايمانهم واجتهدت في ذلك جهدك والاقلون وهم المؤمنون ما لهم الا ايمان مشوب بالشرك فلا يبقى للايمان المحض والتوحيد الخالص الا اقل قليل.
وهذا التوحيد الخالص هو سبيل النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يدعو إليه على بصيرة هو ومن اتبعه وان الله ناصره ومنجى من اتبعه من المؤمنين من المهالك التي تهدد توحيدهم وايمانهم وعذاب الاستئصال الذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في انبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم.
وفي قصصهم عبرة وبيان للحقائق وهدى ورحمة للمؤمنين.
قوله تعالى: {وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} أي ليس من شان اكثر الناس لانكبابهم على الدنيا وانجذاب نفوسهم إلى زينتها وسهوهم عما اودع في فطرهم من العلم بالله وآياته ان يؤمنوا به ولو حرصت واحببت إيمانهم والدليل على هذا المعنى الآيات التالية.
قوله تعالى: {وما تسألهم عليه من اجر ان هو الا ذكر للعالمين} الواو حالية أي ما هم بمؤمنين والحال انك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الذي ننزله عليك وتتلوه عليهم من اجر حتى يصدهم الغرامة المالية وانفاق ما يحبونه من المال عن قبول دعوته والإيمان به.
وقوله: {ان هو الا ذكر للعالمين} بيان لشأن القرآن الواقعي وهو انه ممحض في انه ذكر للعالمين يذكرون به ما اودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به وباياته فما هو الا ذكر يذكرون به ما انستهم الغفلة والاعراض وليس من الامتعة التي يكتسب بها الاموال أو ينال بها عزة أو جاه أو غير ذلك.
قوله تعالى: {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} الواو حالية ويحتمل الاستئناف والمرور على الشيء هو موافاته ثم تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماوية والارضية مشاهدتها واحدة بعد أخرى.
والمعنى ان هناك آيات كثيرة سماوية وارضية تدل بوجودها والنظام البديع الجارى فيها على توحيد ربهم وهم يشاهدونها واحدة بعد أخرى فتتكرر عليهم والحال انهم معرضون عنها لا يتنبهون.
ولو حمل قوله يمرون عليها على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتنى عليه الهيئة الحديثة من حركة الأرض وضعا وانتقالا فانا نحن المارون على الاجرام السماوية بحركة الأرض الانتقالية والوضعية لا بالعكس على ما يخيل الينا في ظاهر الحس.
قوله تعالى: {وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون} الضمير في اكثرهم راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي اكثر الناس ليسوا بمؤمنين وان لم تسألهم عليه اجرا وان كانوا يمرون على الآيات السماوية والارضية على كثرتها والذين آمنوا منهم وهم الاقلون ما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم متلبسون بالشرك.
وتلبس الإنسان بالإيمان والشرك معا مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محل واحد نظير تلبسه بسائر الاعتقادات المتناقضة والاخلاق المتضادة انما يكون من جهة كونها من المعاني التي تقبل في نفسها القوة والضعف فتختلف بالنسبة والاضافة كالقرب والبعد فان القرب والبعد المطلقين لا يجتمعان الا انهما إذا كانا نسبيين لا يمتنعان الاجتماع والتصادق كمكة فانها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام وكذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد والإيمان بالله والشرك به وحقيقتهما تعلق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية وتعلق القلب بغيره تعالى مما لا يملك شيئا الا باذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة والاضافة فان من الجائز ان يتعلق الإنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة وينسى مع ذلك كل حق وحقيقة ومن الجائز ان ينقطع عن كل ما يصد النفس ويشغلها عن الله سبحانه ويتوجه بكله إليه ويذكره ولا يغفل عنه فلا يركن في ذاته وصفاته الا إليه ولا يريد الا ما يريده كالمخلصين من اوليائه تعالى.
وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من احد الجانبين والبعد منه وهى التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع ومن الدليل على ذلك الاخلاق والصفات المتمكنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حق أو باطل والاعمال الصادرة منها كذلك ترى من يدعى الإيمان بالله يخاف وترتعد فرائصه من أي نائبة أو مصيبة تهدده وهو يذكر ان لا قوة الا بالله ويلتمس العزة والجاه من غيره وهو يتلو قوله تعالى: {ان العزة لله جميعا} ويقرع كل باب يبتغى الرزق وقد ضمنه الله ويعصى الله ولا يستحيى وهو يرى ان ربه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعلى هذا القياس. فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الإيمان وهو المسمى باصطلاح فن الاخلاق بالشرك الخفى.
فما قيل ان المراد بالمشركين في الآية مشركوا مكة في غير محله وكذا ما قيل: انهم المنافقون وهو تقييد لاطلاق الآية من غير مقيد.
قوله تعالى: {أفأمنوا ان تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون} الغاشية صفة سادة مسد الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه والتقدير عقوبة غاشية تغشاهم وتحيط بهم.
والبغتة الفجأة وقوله: {وهم لا يشعرون} حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في اتيانها والحال انهم لا يشعرون باتيانها لعدم مسبوقيتها بعلامات تعين وقتها وتشخص قيامها والاستفهام للتعجيب والمعنى ان امرهم في اعراضهم عن آيات السماء والأرض وعدم اخلاصهم الإيمان لله وتماديهم في الغفلة عجيب أفامنوا عذابا من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم وتبهتهم؟.
قوله تعالى: {قل هذه سبيلى ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعنى وسبحان الله وما انا من المشركين} لما ذكر سبحانه ان محض الإيمان به واخلاص التوحيد له عزيز المنال وهو الحق الصريح الذي تدل عليه آيات السماوات والأرض أمر نبيه-صلى الله عليه وآله وسلم- ان يبين لهم ان سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.
فقوله هذه سبيلى اعلان لسبيله وقوله: {ادعوا إلى الله على بصيرة} بيان للسبيل وقوله: {وسبحان الله} اعتراض للتنزيه وقوله وما انا من المشركين تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله بيان ان هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على اساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك اصلا.
واما قوله: {انا ومن اتبعنى} فتوسعة وتعميم لحمل الدعوة وان السبيل وان كانت سبيل النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- مختصة به لكن حمل الدعوة والقيام به لا يختص به بل من اتبعه-صلى الله عليه وآله وسلم- يقوم بها لنفسه.
لكن السياق يدل على ان الاشراك ليس بذاك العموم الذي يتراءى من لفظ من اتبعنى فان السبيل التي تعرفها الآية هي الدعوة عن بصيرة ويقين إلى ايمان محض وتوحيد خالص وانما يشاركه-صلى الله عليه وآله وسلم- فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربه ذا بصيرة ويقين وليس كل من صدق عليه انه اتبعه على هذا النعت ولا ان الاستواء على هذا المستوى مبذول لكل مؤمن حتى الذين عدهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين وذمهم بانهم غافلون عن ربهم آمنون من مكره معرضون عن آياته وكيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته وذكره؟ وقد وصف الله في آيات كثيرة اصحاب هذه النعوت بالضلال والعمى والخسران ولا تجتمع هذه الخصال بالهداية والارشاد البتة.
قوله تعالى: {وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من اهل القرى} إلى آخر الآية لما ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثم حال النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- في دعوته اياهم عن رسالة الهية من غير ان يسالهم فيها اجرا أو يجر لنفسه نفعا بين ان ذلك ليس ببدع من الأمر بل مما جرت عليه السنة الإلهية في الدعوة الدينية فلم يكن الرسل الماضون ملائكة وانما بعثوا من بين هؤلاء الناس وكانوا رجالا من اهل القرى يخالطون الناس ويعرفون عندهم اوحى الله إليهم وارسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما ان النبي كذلك ومن الممكن ان يسير هؤلاء المدعوون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم فبلادهم الخربة ومساكنهم الخالية تفصح عما آل إليه امرهم وتنبئ عن عاقبة كفرهم وجحودهم وتكذيبهم لايات الله.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعوهم الا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله وليس يدعوهم الا إلى ما فيه خيرهم وصلاح حالهم وهو ان يتقوا الله فيفلحوا ويفوزوا بسعادة خالدة ونعيم مقيم في دار باقية ولدار الاخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون.
فقوله: {وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من اهل القرى} تطبيق لدعوة النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- على دعوة من قبله من الرسل ولعل توصيفهم بانهم كانوا من اهل القرى للدلالة على انهم كانوا من انفسهم يعيشون بينهم ومعروفين عندهم بالمعاشرة والمخالطة ولم يكونوا ملائكة ولا من غير انفسهم ويؤيد ذلك توصيفهم بانهم كانوا رجالا فان الرجال كانوا اقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.